### **"لماذا الحرب؟": تشريح الظاهرة الأكثر دموية في تاريخ البشرية بعيون ريتشارد أوفري**
في المشهد الفكري العالمي، تبرز أسئلة كبرى تظل
عصية على الإجابة الشافية، تتوارثها الأجيال وتتداولها الحضارات، دون أن تفقد
وهجها أو إلحاحها. ولعل السؤال عن الحرب هو أكثرها قتامة وإرباكًا: لماذا تلاحقنا
الحرب بهذا الإصرار العنيد؟ كيف أنها، ما إن تخبو في مكان حتى تشتعل في آخر أشد
ضراوة، كأنها ظل لا ينفك عن الكائن البشري؟ وهل هي قدر محتوم، طبعٌ مقيمٌ في
جيناتنا، أم أنها مجرد الثمن الباهظ للشرط الإنساني في عالم محدود الموارد؟
![]() |
### **"لماذا الحرب؟": تشريح الظاهرة الأكثر دموية في تاريخ البشرية بعيون ريتشارد أوفري** |
- في هذا السياق الملغوم، يأتي كتاب المؤرخ البريطاني المرموق ريتشارد أوفري، "لماذا الحرب؟"
- (Why War?)، الصادر حديثًا عن "دار بيليكان"، ليقدم مساهمة فكرية استثنائية. لا يقدم
- أوفري، المعروف بأبحاثه الدقيقة حول الحرب العالمية الثانية، إجابات سهلة أو وصفات سحرية
- بل يخوض رحلة معرفية عميقة وشجاعة لتفكيك هذه الظاهرة المعقدة، مستعينًا بترسانة من العلوم
- الإنسانية والطبيعية. يشكل هذا الكتاب منعطفًا حقيقيًا في مسيرته الأكاديمية، حيث ينتقل من
- أرشيفات الجيوش وخرائط الجبهات إلى استinterrogation أعماق النفس البشرية، وحفريات
- التاريخ السحيق، وديناميكيات البيئة القاسية.
**الجزء الأول حفريات الغضب الأول وتشريح الذئب الرابض فينا**
يقسم أوفري كتابه ببراعة إلى شطرين متكاملين. يتناول
الشطر الأول الحرب بوصفها جزءًا من التكوين البيولوجي والنفسي والثقافي للإنسان. هنا،
لا يبحث المؤرخ عن قرار سياسي أو خطأ دبلوماسي، بل ينقب عن الجذور الأولى للعنف في
طبقات وجودنا العميقة.
- يبدأ الفصل **البيولوجي** باستinterrogation الفرضية الداروينية وامتداداتها المعاصرة: هل
- الحرب مجرد امتداد لسلوك البقاء والتنافس الذي يمكّن الأقوياء ويقصي الضعفاء؟ يستعرض أوفري
- بحذر دراسات عدوانية الشمبانزي، أقرب أقربائنا في مملكة الحيوان، والتي استخدمت مرارًا لتبرير
- النزوع البشري نحو العنف المنظم. لكنه يتحاشى بذكاء الوقوع في فخ الحتمية الجينية. فوفقًا له، حتى
- لو امتلك الإنسان استعدادًا فطريًا للعنف، فإنه ليس عبدًا أعمى لغريزته. يبقى السؤال مفتوحًا: ما هو
- حجم هذا الهامش من الاختيار الذي نمتلكه حقًا؟
ينتقل أوفري بعد ذلك إلى **علم النفس**، متوغلًا في تلافيف العقل واللاشعور. نقطة الانطلاق هي المراسلات الشهيرة بين ألبرت أينشتاين وسيغموند فرويد عام 1932. سؤال أينشتاين البريء "لماذا نحارب؟" قوبل برد فرويد المشبع بالتشاؤم، والذي أرجع الظاهرة إلى "غريزة الموت"
- (Thanatos)، تلك الرغبة الخفية في تدمير الآخر كوسيلة دفاعية ضد فناء الذات. لا يسلم أوفري
- بهذا التفسير كليًا، بل يعيد تفكيكه، مشيرًا إلى أن التحليل النفسي ركز تاريخيًا على الأفراد، وتعميمه
- على سلوك الجماعات والدول محفوف بالتبسيط المخل. ومع ذلك، يرى أن الميل للقتال لا ينبع فقط من
- غريزة البقاء
بل من رغبة دفينة في إثبات الهوية عبر نفي الآخر، وهي ديناميكية نفسية يمكن استغلالها بسهولة على المستوى الجماعي. ويتوسع في هذا التحليل ليشمل الثقافة الشعبية، من ألعاب الأطفال التي تحاكي المطاردة والأسر والهجوم، إلى صناعة السينما التي تجمل العنف وتقدمه كطقس بطولي يستحق الإعجاب والاقتداء، مما يساهم في إعادة إنتاج نمط الصراع عبر الأجيال.
أما في القسم **الأنثروبولوجي**، يقوم أوفري بتقويض أسطورة "البدائي النبيل"، تلك الصورة الرومانسية التي ترى الإنسان الأول كائنًا مسالمًا بالفطرة. الأدلة الأثرية تروي قصة مختلفة تمامًا. يتوقف عند أطروحة الأنثروبولوجية مارغريت ميد التي اعتبرت الحرب "اختراعًا ثقافيًا". وإذا كانت اختراعًا، فمتى ولماذا تم ذلك؟ للإجابة، يأخذنا أوفري في رحلة عبر 30 ألف عام من الأدلة، بل إلى ما هو أقدم بكثير.
- يستشهد باكتشاف مروع في شمال إسبانيا لموقع يعود إلى 800 ألف عام، حيث عُثر على جماجم
- مشروخة وعظام تحمل آثار قطع متعمد، مما يرجح وقوع أعمال قتل عنيف أو حتى افتراس بين
- المجموعات البشرية الأولى. ورغم أن كل أثر على حدة قابل للتأويل، فإن تراكم هذه الشواهد من كينيا
- إلى النمسا، حيث تظهر مقابر جماعية وجماجم مهشمة، يمنح الفرضية وزنًا يصعب تجاهله. الحرب
- في
شكلها البدائي، كانت طقسًا اجتماعيًا متكررًا من أجل الغنيمة أو الانتقام أو
الدفاع عن الموارد.
يختتم هذا القسم بفصل عن **الإيكولوجيا**،
معيدًا الاعتبار لصوت الطبيعة كلاعب أساسي في دراما الحرب. فعندما تشح المياه،
وتجف التربة، وتنهار النظم البيئية، لا يعود أمام الجماعات البشرية سوى القتال من
أجل البقاء. الطبيعة المنهكة تتحول إلى ساحة صراع، تدفع البشر إلى الهجرة أو
السيطرة أو التدمير. يرى أوفري أن التحولات البيئية المفاجئة، من المجاعات القديمة
إلى النزاعات الحديثة حول الأنهار وحقول النفط، كانت في كثير من الأحيان هي
الشرارة الأولى التي أشعلت حروبًا واسعة النطاق، حتى وإن تقنعت لاحقًا بأقنعة
قومية أو لاهوتية.
**الجزء الثاني الظل والسيف محفزات الحرب المحسوبة**
في القسم الثاني من الكتاب، ينتقل أوفري من
الطبيعة البشرية إلى الممارسة الفعلية للحرب، من الدوافع الكامنة إلى المحفزات
المباشرة. هنا، تُدرس الحرب كفعل محسوب، تحركه دوافع واضحة: الرغبة في الموارد،
والالتزام العقائدي، وتطلعات السلطة، والهواجس الأمنية.
- في فصل **"الموارد"**، يرصد كيف ارتبط القتال عبر العصور بالحصول على شيء ملموس. لم
- تكن الحروب دائمًا رد فعل على خطر وشيك، بل غالبًا ما قامت على دافع الامتلاك والتوسع.
- يستحضر أمثلة تاريخية ومعاصرة صارخة، من تفاخر يوليوس قيصر بأسره "مليون عبد" خلال
- غزو بلاد الغال لتمويل إمبراطوريته، إلى الحملات الاستعمارية التي بنت مجدها على النهب والسبي
- وصولًا إلى النزاعات النفطية الحديثة في الخليج، والمشهد الرمزي لروسيا وهي تغرس علمها في قاع
- البحر تحت القطب الشمالي في سباق محموم على موارد المستقبل.
أما فصل **"المعتقد"**، فيتناول
العلاقة الشائكة بين الدين والحرب من زاوية وظيفية. لا يدين أوفري الأديان بحد
ذاتها، بل يتتبع كيف جرى استغلالها عبر التاريخ كأداة فعالة للتعبئة والتبرير. من
الحروب الصليبية إلى دعوات الجهاد، ومن مفهوم "الحرب العادلة" إلى تبرير
الفتوحات، يُظهر كيف تم تأويل النصوص المقدسة وتطويعها لتناسب أجندات سياسية
وعسكرية. ويبرز المفارقة القاسية: أديان قامت على قيم المحبة والتسامح، انتهى بها
المطاف لتُستخدم كغطاء شرعي لأبشع أشكال القمع والعنف المنظم.
** فهم لا يضمن الخلاص**
ما يميز كتاب "لماذا الحرب؟" هو قدرته
على نسج خيوط هذه التخصصات المتباينة في سردية متماسكة ومقنعة. لا يقدم أوفري
إجابة واحدة، بل يرسم لوحة فسيفسائية معقدة. الحرب ليست نتاج غريزة عمياء فقط،
وليست مجرد حسابات عقلانية باردة، بل هي تقاطع كارثي بين كل هذه العوامل: استعداد
بيولوجي، وهشاشة نفسية، واختراع ثقافي، وضغط بيئي، وجشع اقتصادي، وتلاعب إيديولوجي.
الختام
المفارقة أن هذا العمل البحثي بدأ قبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، لكنه صدر في عالم تتكاثر فيه الصراعات كالفطريات السامة. لذا، يكتب أوفري وفي ذهنه هذا الإقرار المرير: "إن فهم الحرب بات ضرورة ملحة، وإن كان لا يضمن لنا أن نمنعها. فالحرب لها تاريخ طويل... لكنها، بلا شك، لها مستقبل أيضًا".
في النهاية، يتركنا الكتاب مع حقيقة ثقيلة: قد لا
يكون الحل في القضاء على "الذئب الرابض فينا"، بل في بناء أقفاص ثقافية
وسياسية وقانونية قوية بما يكفي لإبقائه حبيسًا. مهمة تبدو اليوم، أكثر من أي وقت
مضى، شاقة ومصيرية.